الشكر من الاعضاء : 0 عدد الرسائل : 2422 العمر : 55 الموقع : فلسطين-غزة المزاج : هادئ وسام : المزاج : SMS : لا يحزنك إنك فشلت مادمت تحاول الوقوف على قدميك من جديد الدوله : البلد : : فلسطين نقاط الاعضاء حسب نشاطهم بالمنتدى : 5988 تاريخ التسجيل : 14/09/2008
إعلانات المنتديات
معلومات الاتصال
موضوع: رحلةٌ إلى المسجد الأقصى الخميس سبتمبر 18, 2008 10:38 pm
رحلةٌ إلى المسجد الأقصى
"بعد ثلاثين عاماً من اللقاء، أعود لأسطّر هذه الومضات من سطور الذكريات، إنها صفحات في وجدان طفل زار القدس وصلّى في مسجدها، ولم يكن يعلم أن سنوات عمره لم تسجل له إلا هذا اللقاء اليتيم..." بقلم: سمير عطية*
هذه التجهيزات غير مسبوقة!!
حركة سريعة في بيت عمتي، وسرعتنا في تجهيز الأغراض ووضعها في السيارة، تشابه سرعة النحل الذي قرصني هناك وفرَّ قبل أنْ أحاول اصطياده بحجري الصغير!!
غير أن ما آلمني أكثر هو مشهد حقائب السفر التي أراها في ساحة المنزل، وسؤال والدي عن السيارة، وصوت أمي وهي تناديني كي أتجهز للسفر...
ودموع الأحبة على صفحات الوجوه والشفاه التي ارتسمت حزناً بعد أن احتضنتنا أياماً بالسعادة والبشر والفرح...
ما الذي يجري؟
وكأنك لا تعرف أيها الشقي؟!
كان صوت شقيقتي. وتابعت قائلة: جهّز نفسك بسرعة فلقد اقترب موعد السفر!!
سفر مرة أخرى!!
ألم يكفنا ما قطعناه من مسافةٍ من الكويت مروراً بالعراق، وليس انتهاءً ببيت جدي في الأردن؟! ولم نكد نهنأ بزيارة فلسطين، وننتقل من مكان لآخر؟!
حديث النفس كان يأخذني إلى حيث لا أنا، كان يسلبني فرحة اللقاء، ولم أعرف حينها أن الساعات القادمة ستكون أجمل الساعات في صفحات عمري، ولن تنمحي عن الذاكرة أو تذوب في دفاتر النسيان مع الأيام..
أجابتني شقيقتي: أسرع، فوالدي يريد أن يصل إلى القدس مبكراً كي يصلي الظهر هناك..
حين وصلت السيارة ، وبدأنا بنقل الحقائب، تذكرت ما كان يدور من حديث عن زيارة القدس، وظننت حينها أن والدي سيذهب بمفرده ويعود...
أذكر الآن جيداً كيف تطرق مسامعي أحاديث عن زيارة المسجد الأقصى، فلقد أخذت حيزاً كبيراً من التجهيزات العائلية بعد ذلك، وصارت المشروع القادم والمهم الذي سيتوج هذه الزيارة بتاج الطمأنينة والفرحة على حد قولهم ذات مساء.. كيف؟ لا أدري!!
كنت أشعر بحزنٍ عميق حين غادرت بيت عماتي، تلك البيوت الريفية في قرية قباطية، المزينة بالحنين والمحبة، والتي تحتضن بين ربوعها بيتاً صغيراً للأرانب والدجاج كان بالنسبة لطفل مثلي غاية الروعة ومنتهى المتعة، لم أغفل عن وداعها ومحاولة ترك طعام لها إلى يوم عودتي.
وجهي يكاد يلتصق بزجاج السيارة الخلفي، وأنا أنظر إلى الأيدي وهي تلوح لنا بالوداع، ودموعي الصامتة سببها سؤال يتردد في نفسي: لماذا نسافر من جديد؟
بل ماذا ستضيف زيارة القدس بعد كل المسافات التي قطعناها، والبلاد التي زرناها؟!
أحدث نفسي باستغراب، وأنا ابن الخامسة عن حماسة والدي واشتياق والدتي للذهاب إلى المسجد الأقصى، وكأن كل المساجد التي صلينا فيها لا تكفي حتى نعدّ العدة من جديد لسفر إلى مسجد لم أزره من قبل...
الطريق إلى القدس كان جميلاً ولا أثر لحرارة الطقس التي نجدها في الخليج، كما أن بائعي التين على جانبي الطريق يعطون تميزاً للمكان الذي أزوره لأول مرة..
كل شيء في هذا الطريق كان جديداً، غير أن ازدحام السيارة بعائلتنا الكبيرة جعلتني أنتظر وصولنا إلى مدينة القدس بفارغ الصبر، أكثر من أيِّ شيءٍ آخر!!
حديث والدي مع سائق السيارة، حفظته عن ظهر قلب لكثرة ما تحدث به في هذه الرحلة، فنحن من أهل هذا الوطن، ولكننا خرجنا بعد النكسة، والأولاد ولدوا في الكويت، وستكون هذه أول زيارة لهم لمدينة القدس, و... الآن أهمس في أذن السائق: لقد أصبحت الأخيرة!!
***
وصلنا!! نعم أخيراً وصلنا !!
فلقد كان الرحيل عن بيت عمتي أمراً لا رغبة لي فيه، إلى حيث رحلة مجهولة لا أعرف عنها شيئاً إلا الاسم. وكنت أذهب إلى القدس في مغامرة لا أعرفها، إلا أن والدي ووالدتي يريدون التزود من الحنين والاشتياق لوطن عنوانه القدس كما يقولون!!
كانت الأطعمة مع والدتي تخفف عنا جوع السفر، وتكتم أفواهنا كي لا نفسد عليها روعة اللقاء المنتظر...
عيوني التي استقبلت من اللحظة الأولى دهشة المكان حين رأيت المسجد الأقصى من بعيد، صارت تسابق خطواتي، وصرت أكثر لهفة لهذا اللقاء الجديد، وصرت متشجعاً للاقتراب أكثر، وهذا ما حدث بالفعل...
حين وصلت إلى الساحة الكبيرة للمسجد الأقصى وجدت أنها كافية كي أركض فيها لنهار كامل دون أي تعب أو كلل!
أشجار كثيرة تحمينا من أشعة الشمس، وأكثر من سبيل ماءٍ موجود في المكان، وبعض الباعة عند الأبواب يبيعون العديد من الأطعمة الشهية والعصائر الباردة المثلجة.
جمال المكان يزداد في الوجدان بتسارع عجيب، وكل شيء فيه يشعرني أنني أعرفه منذ زمن بعيد، ربما أكثر من الخمس سنوات التي أعرف بها عمري!!
كدت أن أذهب لأتجول في الساحات كما أحب، ولكن بدأ الجِد مبكراً ودون المتوقع... والدي يتوضأ مع أخويّ الكبيرين، وعليّ أن أفعل كما يفعلون...
ولكن من أين؟
من صنابير المياه الموجودة في قلب الساحة كنافورة ماء بشكل دائري عتيق، لاحظت أنّ الذي لا يتوضأ، يغرف بيده قليلاً من الماء ليغسل وجهه، أو ليروي عطش الجسم والروح، كما أسمعهم يحكون..
بدأت الوضوء معهم وقلت لنفسي لا بأس في ذلك، فسرعان ما تنتهي الصلاة لألعب كما أشاء.
أدهشتني برودة الماء فعجَّلت اشتياقي للمسجد، وعلى وجهي المبلل صارت تعانقني نسمات عليلة، ولكن أين هذه البرودة من مكيف التبريد الذي أفتقده هنا في هذا اليوم الحار من صيف عام 1977!!. كنت أحفظ الأذان جيداً فلماذا الآن يبدأ بـ"سمير سمير"؟! يبدو أنني نسيت نفسي، فلم أنتبه إلا وهم ينادون بصوت مرتفع في ساحة المسجد لألحق بهم...
أركض باتجاههم مع بعض الضحكات فأشعر بأنفاسي المتقطعة، أمشي إلى جوارهم فيسبقونني من جديد، أضطر إلى الركض مجددا لأسبقهم وسرعان ما يلحقون بي...
الآن... مضى وقت المزاح واللعب!!
لا أدري أية رهبة أخذتني وأنا أدخل إلى المسجد الذي كان يخلو من المصلين في وقت الضحى، وكأنني اليوم بالشاعر الراحل يوسف العظم وهو يكتب عنوان ديوانه الشعري ( قناديل في عتمة الضحى)، فلقد أضحى ذلك اليوم منقوشاً في ذاكرتي تماماً مثل نقوش الفراعنة على جدران الأهرامات، غير أن نقوشي أجمل وأطهر وأبقى!!
مشيت وقلبي معلق في سماء المسجد، حتى إذا مشينا إلى نهاية الثلث الأول منه في الجزء الشرقي، وقفت إلى جانب والدي وشقيقي وبدأت الصلاة، أتمتم بفاتحة الكتاب، وعيناي تتجولان في الحائط الأمامي من هذا المسجد القديم، الجديد على ناظري بكل ما فيه... أدهشتني هذه الأعمدة العتيقة، الشامخة، وكانت تأخذني بروعتها من الصلاة إلى عشق الصلاة في هذا المكان.
تجولنا في أنحاء المسجد بعد ذلك، وتأملت بإعجاب في نوافذه الكبيرة، وأخذت أدور حول نفسي كي أحاول عدها، كدت أن أعرف الرقم لولا أن شقيقي قرصني بيده كي أكون أكثر تأدباً في المسجد...
صرت أتحسس الحجارة التي تحت النوافذ، وفوجئت ببرودتها رغم الشمس التي تحتل بطن السماء، واستمعت باهتمام إلى والدي وهو يبدي إعجابه بروعة البناء الذي ساهم في أنه ملك جزءاً من شغاف قلوبنا.
بعد أن خرجنا من المسجد ركضت في الساحة كي أسبقهم غير أن التنبيهات الصارمة عادت من جديد، أنْ لا مكان للعب هنا.
عدت للمشي معهم، ومررنا بالقرب من الأشجار التي تنتشر في أكثر من ساحة من ساحات المسجد الواسعة.
عدنا أدراجنا إلى مبنى جميل في بنائه، متميز في معماره، تصاب العين بالذهول حين تراه بالصورة، فكيف إذا كان اللقاء حياً... ولا يفصلك عنه إلا العناق!!
حين التقينا بوالدتي وشقيقاتي على أبواب قبة الصخرة، قررت البقاء معهنّ لزيارة هذا المكان، حيث لا أوامر كثيرة تشعرني أني مقيد في فضاء فسيح، ولكن للأسف خاب ظني إلى أبعد الحدود...
- اخلع "صندلك" يا ولد قبل ما تفوت للمسجد!!
هذا الحارس الذي يجلس على كرسي خشبي يبدو أنّه يتحدث معي، فما من أولادٍ حولي عند باب القبة، وما من أحدٍ إلا وخلع الحذاء قبل الدخول إلا أنا...
عدنا ثانية إلى الأوامر، ولكن هذه المرة من شخص لا أعرفه...
حاولت الدخول فمنعني بعصاه التي يلوح بها في يمنيه، ابتعدت قليلاً، ثم "تذاكيت" وحاولت الدخول حين كان يفتّش ضيوفاً آخرين، لكنه انتبه وصاح محذراً: اخلع "صندلك" يا ولد وإلا...
هذه المرة أزعجني وقررت الدخول لولا أنّه قام غاضباً وركض خلفي بضع خطوات كانت كفيلة أن أطلق ساقي للريح لأختبئ بعيداً عنه بين أعمدة إحدى القباب الموجودة في الساحة المحيطة لقبة الصخرة..
انتظرت وصرت أسترق النظر لعلّه لحق بي، بعد دقائق من الانتظار، لم تكنْ أمي على الباب تبحث عني، وخلال هذه المدة وجدت أن خلع الحذاء أمر مطلوب عند الدخول لهذا المبنى الجميل الذي لا أعرف ما فيه.
اقتربت من الباب بقلقٍ مستعداً لغضبة الحارس مرة أخرى، انحنيت وخلعت "صندلي" ودخلت إلى القبة حيث رأيت والدتي منشغلة عني برؤية قبة الصخرة والاستماع باهتمام إلى تفاصيل هذا المكان المطرز بالتاريخ، المعطر بعبق النبوة، وروعة الإسراء والمعراج،
لم أدرك كثيراً مما تقوله ابنة عمتي لوالدتي، غير أنني أدركت أنني في مسجدٍ استثنائي، بتاريخه، بهندسة بنائه، وأدركت بعد ذلك أنه استثنائي بذكرياته!!
نظرت ورائي كي أتأكد أن هذا العجوز لن يصرخ بي مرة أخرى...
أمسكت بيد والدتي التي صارت تسمع من قريبتي عن تفاصيل المكان، ونزلت معها إلى المغارة التي توجد أسفل هذا المسجد، وصلّيت معها من جديد، أشارت إحدى الزائرات إلى أنّ هناك قطة ولدت على ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زار هذا المكان، وتم تحنيطها لتصبح تمثالاً، كيف لا أدري!!
حين كنت أقول هذه الأسطورة فيما بعد كنت أواجَه بالسخرية، فتوقفت عن نقل ما أخبرتنا به تلك العجوز.
واكتفيت حين كنت أسترجع ذكرياتي بسرد مواقف أخرى عن هذه الرحلة.
في كثيرٍ من الأوقات التي تظهر فيها صورة قبة الصخرة على شاشة التلفاز، أو أشاهد ملصقها على بعض الدفاتر المدرسية، أو يأتي الحديث عنها في مجالس الأصحاب، أبدأ بالحديث عنها لأتحدث لزملائي، وأشعر بغيرتهم لأنني حظيت بصلاة في هذه المدينة الرائعة، وأشاهدهم يضحكون حين يتذكرون حارس الصخرة وهو يلوح لي بالعصا...
عوداً إلى قبة الصخرة... فلقد صعدت بعدها من المغارة لأقف قرب والدتي، وأطلّ على الصخرة التي أقيم من أجلها هذا المسجد المتميز...
لم أكترث بعد ذلك بالطعام أو الشراب، أو بالباعة المتجولين وما معهم من أطعمة...
كنت أدرك تماماً أنني تركت قلبي معلقاً على أحد أعمدة الأقصى، وأدرك اليوم أيضاً أنّه لا يزال ينبض هناك بالحنين والهوى، على أمل اللقاء الجديد.
وبعد... فهذه أيام لا يزال عبق أريجها ينتشر في فضاء القلوب، ويسري حنينها في شرايين الذكريات.
أسطرها اليوم وفاءً للمسجد الذي أحبّه، والقبة التي أعشقها، والوطن الذي نكتب من أجله أجمل الأشعار، ونقدّم بين يديه أغلى الثوار.